التعليم المعاصر والتربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
خبير التعليم
أولا: الخصائص والشروط التي اشترطها المسلمون الأوائل في المعلمين والمربين:
1- أن يكون المعلّم أو المربي قوي اليقين بالله عز وجل وأن يقو بشعائر الدين وإظهار السنة وإخماد البدع وأن يتخلق بمحاسن الأخلاق.
2- أن يتشبه بأهل الفضل والدين من معلمي الصحابة والتابعين ومن أتي بعدهم من أكابر العلماء والفقهاء والسلف الصالح.
3- ألا ينصِّب نفسه للتعليم حتى يستكمل أهليته ويشهد له أفاضل الأساتذة بذلك.
4- أن يحب تلاميذه ويصونهم عن الأذى ما استطاع، وأن يغفر لهم خطاياهم ويعذرهم على هفواتهم.
5- أن يرحِّب بطلبته إذا حضروا إليه ويسأل عنهم إذا غابوا عنه، وأن يعودهم في منازلهم إذا كانوا مرضى.
6- أن يقول "لا أدري" إذا سئل عما لا يعرفه, وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصيته للمعلمين: "يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل: "الله أعلم" فإنّ من العلم أن تقول "الله أعلم".
7- أن يتفهّم مستوى طلابه ويخاطبهم على قدر فهمهم وإدراكهم، فيكتفي للحاذق بالإشارة، ويوضح لغيره بالعبارة، ويكرر الكلام لمن لا يعلم، وعليه أن يبدأ بتصوير المسألة أو موضوع الدرس، ثم يوجِّه الأمثلة، ويقتصر على ذلك من غير دليل ولا تعليل، فإن سهل على الطلبة الفهم فعليه أن يذكر التعليل والمأخذ ويبيِّن الدليل المعتمد.
8- ألا يعلِّم أحداً ما لا يحتمله ذهنه أو سنُّه، ولا يشير على أحد بقراءة كتاب يقصر عنه فهمه.
9- ألاّ يدرس وهو منزعج النفس، أو فيه ملل أو مرض أو جوع أو غضب فإن ذلك مضرٌّ بنفسه وبطلابه ضرراً بليغاً.
10- أن يكون يقظاً أثناء الدرس وأن يوقظ الغافل من طلابه، وأن ينصحهم بحسن الاستماع من حين لآخر، وأن يحثهم على نظافة الفصل ومكان إلقاء الدرس.
11- أن يجعل للطلاب أوقاتاً معينة يعرضون فيها عليه ما حفظوه من القرآن والعلوم الأخرى وليكن ذلك في نهاية كل أسبوع وذلك سنة المعلمين الأوائل منذ كانوا.
12- أن يستعلم عن أسماء طلبته وحاضري درسه وعن أنسابهم ومواطنهم وأحوالهم لما في ذلك من تقوية الصلات بينه وبينهم والتعرف عليهم بما يسهِّل له أمر تعليمهم بعد الوقوف على مشكلاتهم ومحاولة معالجتها.
13- يجب عليه أن يكون مَثَلاً أعلى لطلابه في هندامه ومظهره ونظافة جسمه وتقصير أظفاره واجتناب الروائح الكريهة والعادات الممقوتة.
14- أن يطرح على تلاميذه أسئلة كثيرة متنوعة يفهم منها مقدار ما استوعبوه من دروس وما فهموه من مقررات، فإن لم يجدهم قد استفادوا بالقدر المطلوب أعاد عليهم الكرّة، وإن وجدهم قد فهموا وحفظوا فعليه أن يثني على البارع منهم ويشجع المتوسط ويأخذ بيد الضعيف والمتخلف, وعليه أن يوصي كل واحد منهم بقراءة الكتب التي تلائم مستواه الفكري وعمره الزمني.
والحق إنّ المعلّمين في كل زمان هم الصفوة المختارة الذين نذروا نفوسهم لتعليم أبناء الأمة وأذابوا حياتهم لإضاءة الطريق أمام الشباب وأجيال المستقبل، قد حملوا أسمى رسالة وعليهم أن يؤدّوها في صدق وأمانة وإخلاص حتى ينالوا رضا الرحمن ويحوزوا القبول من الناس. ويكفيهم فخراً وشرفاً أنهم خلفاء سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه.
ثانيا : الآداب والفضائل التي يجب أن يتحلى بها طلاب العلم:
1- يجدر بطالب العلم أن يفهم أنه إنما يتعلم العلم لله ولدين الله وللخير والمحبة والسلام وليس لأي عرض زائل.
2- وعليه أن يحافظ على شعائر دينه الحنيف ومكارم الأخلاق وإظهار السنن وأن يخشى الله في كل ما يقول وما يفعل وأن يطهِّر قلبه من الصفات الذميمة كالحسد والرّياء والغش والكذب وما إلى ذلك منم فاسد الأخلاق.
3- يجدر بطالب العلم أن يجدَّ في الدراسة منذ بداية العام وأن ينشط في الحفظ والعمل وألا يتأخر عن مواعيد دروسه.
4- يجب عليه أن لا يسأل أستاذه أسئلة تعنُّت وتعجيز، وأن يهذِّب أسئلته ويعرضها بشكل مقبول وبأسلوب مهذَّب.
5- أن لا يعاشر غير إخوان المجدين، ويبتعد عن أصحاب الأخلاق الفاسدة ورفاق السوء، فإن الطبع سرَّاق.
6- أن لا ينتقل من بحث قديم إلى بحث جديد إلاّ إذا بعد إتقان البحث القديم، إلاّ إذا كان ذا مواهب كبيرة، وبعد استئذان أستاذه ومشورته بذلك.
7- وعليه أن ينظر لأستاذه ومربيه نظرة إجلال واحترام وتقدير وأن يبجِّل أستاذه في حضوره وغيبته، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه ولا يناديه من بعيد، بل عليه أن يخاطبه بصفة الجمع ويذكره في غيبته بقوله: قال أستاذنا أو شيخنا كذا وكذا..
8- أن يسبق أستاذه في الحضور إلى مكان الدرس أو الحلقة أو الندوة وأن يجلس في حضرته بأدب، ويتعاهد تغطية قدميه وإرخاء ثيابه ولا يستند في حضرته إلى (جدار) أو مخدة (وسادة) ولا يدبر إليه ظهره وغير ذلك مما هو متعارف عليه في آداب الجلوس.
9- أن يلقى بسمعه إلى الشيخ بحث لا يضطره إلى إعادة الكلام ولا يتمخط ولا يتمطى ولا يتثاءب ولا يتجشَّأ ولا يضحك إلا بقدر وعند المناسبة.
10- أن يقلِّل النوم وينظم مواعيده حتى لا يلحقه الضرر من كثرة النوم في بدنه وذهنه بحيث لا يزيد نومه في اليوم والليلة على ثماني الساعات.
11- وعليه أن يعمل دائما على ما ينشِّط ذهنه بالترويح عن النفس وذلك بالسير في الخلوات والمنتزهات وممارسة الرياضة. وأن لا يأكل ما يفسد عليه ذوقه وفهمه أو يضر بصحته أو ينسيه بعض ما درس وكان المسلمون الأوائل يوصون الطالب بتناول بعض الأطعمة وشرب بعض الشراب الذي يعتقدون أنه يقوي الذهن والذاكرة مثل: أكل الزبيب بكثرة، وشرب الجلاب والعسل واستعمال السِّواك.
هذه هي بعض التعاليم الإسلامية الأصيلة التي وردت على لسان العلماء والمربين المسلمين الأوائل لأبنائهم من طلاب العلم في كل زمان ومكان, لتصلح من شأنهم وترفع من قدرهم وتسمو بمستواهم العقلي والخلقي والبدني والاجتماعي, وهي مشاعل تنير لهم طريق الهداية في حياتهم الدراسية، حتى إذا ما خرجوا إلى ميدان الحياة العامة كانوا رجالا عاملين مؤمنين مشبَّعين بروح التربية الإسلامية السمحة التي تعصمهم من الزلل وتهديهم صراطاً مستقيما في حياتهم الدنيوية والأخروية.
النظام التأديبي لطلاب المدرسة الإسلامية:
اهتم المربُّون المسلمون الأوائل بأمر عقوبة الطفل وتأديبه بغية تعليمه وتهذيبه وتقويم سلوكه, وقد اختلفت آراؤهم في الوسيلة التي يعاقب بها الطالب:
1- رأى بعضهم أنه لا بد من العقوبة، على أن لا تتعدى حدود الإنذار، فالتوبيخ، فالتشهير أمام زملائه، فالضرب الخفيف.
2- وقال آخرون بإباحة الضرب والعقوبة الجسدية الشديدة إذا ما تجاوز الطفل حدود المعقول والمقبول ولم ينفع فيه الإنذار والتوبيخ والتشهير والزجر والضرب الخفيف.
3- وقال الأكثرون من المربين أن العقوبة تنقسم قسمين: روحية وبدنية, ويجب أن يسبق ذلك النصائح والتوجيهات والإرشادات، فإن لم تجد نفعا فإنه يبدأ بالعقوبة الروحية وهي العبوس في وجه الطالب المعاقب، فاللوم، فالإهانة على انفراد فالتوبيخ أمام الرفقاء. فإن لم تأت العقوبة الروحية بنتيجة ما لجأ إلى العقوبة الجسدية من الوخز والضرب وليتجنب المربي أن يضرب رأس الفتى أو وجهه.
وهم يستدلون على جواز استخدام العقوبة البدنية بالحديث النبوي الشريف القائل: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر".
ويقول المربي العربي القابسي فيما كتبه عن سياسة المعلمين: "إنه يبيح للمعلّم أن يؤدب أطفاله إذا لم يفد معهم اللطف والإيناس، ويبيح له ذلك على أن يتجاوز ثلاث ضربات إلا إذا كان الطفل سيّئ الخلق قد ناهز الاحتلام فلا بأس من ضربه عشر ضربات وألا يزيد عن ذلك لأن أبناء الناس وديعة في يده. وكما يعاقب المعلّم تلميذه على إهماله دروسه يعاقبه أيضا على الإسراف في لعبه ولهوه وعلى الهرب من الدرس وعلى إيذاء إخوانه".
ويقول في ذلك أيضا المربي القابسي: "إذا أفرط الطالب فتثاقل على الإقبال على العلم، وتباطأ في حفظه أو أكثر الخطأ فيما حفظ أو في كتابة لوحه من نقص حروفه وسوء تهجيته وقبح كتابته وغلطه في نقطه، فنبَّهه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يُغن فيه التقريع بالكلام فله أن يعاقبه بالعقوبة البدنية المناسبة وهي الضرب بعصا (ضرباً لا يسبب للطالب عاهة مستديمة أو أذى شديداً وإنما يكفي شعوره بالألم عند توقيع العقوبة عليه)".
على أنّ كثيراً من المؤدبين والمربّين كانوا يلّحون إلحاحا شديداً بوجوب عدم الضرب والشتم والسب لما فيها من الفساد. فقال أحدهم: "لا تؤدبه إلاّ بالمدح ولطف الكلام وليس هو ممن يؤدب بالضرب أو التعنيف".
فهذا يدلنا على أن نفراً من المربّين المسلمين كرهوا الضرب أصلاً, وأوجبوا عدم العنف لما في ذلك من الضرر على المتعلم.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الرفق في الأمر كله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
العلاقة بين الأستاذ والتلميذ في صدر الإسلام وفي عالمنا المعاصر:
كانت العلاقة بين المعلم والمتعلم في صدر الإسلام قائمة على الحب والوفاء والتكريم والتوقير، فالمعلم والد يؤدب بالحسنى، ويهذِّب بالحكمة، ويقسو حينما تجب القسوة، ولكنها قسوة من يريد الخير لابنه وتلميذه.
وكان المتعلّم ابناً مطيعا بارّاً، يرى في إجلاله لأستاذه مظهراً من مظاهر الأدب وحسن الخلق، وكان التلميذ يعتبر نفسه عجينة في يد أستاذه المحب له الحريص عليه، فهو يشكِلُّها ويصوغها على حسب ما يرى, ويعتقد فيه الصلاح والنجاح. وعلى التلميذ أن يسمع ويستجيب.
وكان الطالب يحافظ على وفائه لأستاذه حتى بعد تخرّجه أو انقطاعه عن حلقة الدرس، أو بلوغه مرتبة ملحوظة في الحياة, فهو يظلّ يذكر مدرسه بالخير، وهو يحتفل لقدومه ولقائه, ويتأدب أمامه ويستحي منه ويزوره ويتودد إليه.
وكان المدرِّسُ من جهته يظلّ على صلة بتلميذه ولو نزل معترك الحياة, وهو يواصل توجيهه وإرشاده بحسب طاقته وإمكاناته وقدراته، وهو يتبع خطواته في المجتمع، ويفرح لتوفيقه ونجاحه في مجال عمله.
هذه العلاقة بين الأستاذ وتلميذه ظلّت قوية ومتينة إلى عهد قريب. ولو رجعنا إلى عهد أبعد، وذهبنا نسترجع تاريخنا الإسلامي لوجدناه عاطراً بقصص الحب والوفاء المتبادل بين المعلّمين والمتعلّمين مليئاً بمواقف التمجيد من جانب التلاميذ للأساتذة والمربّين والأوائل.
ومن أبلغ ما ورد في مجال تكرم الطلاب لأستاذهم هذه القصة:
كان المعلّم النحوي الشيخ "الفراء" يقوم بتعليم ولدَيْ الخليفة العباسي المأمون علوم العربية، وذات يوم أراد "الفراء" أن يقوم من درسه، فتسابق الأميران إلى حذائه ليقدِّماه إليه وتنازعا على ذلك لحظة، ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما من الحذاء واحدة, ولما علم الخليفة الوالد "المأمون" بالقصة تأثر منها وأعجب بها.
أما اليوم: فإنّ من الطلاب من ينسى حق أستاذه وهو بين يديه يغترف من علمه وفضله، فكيف به إذا بعد عنه وتخرَّج وعمل في ميدان تخصصه, كما أنّ بعض المدرّسين وهم قلة لا يؤدون حق تلاميذهم عليهم, ولا يبذلون الجهد المطلوب في سبيل تعليمهم وتربيتهم ومعالجة مشكلاتهم.
حقاً لقد ضعفت الرابطة بين التلميذ وأستاذه في عالمنا المعاصر، وضعفت العلاقة بينهما في بعض الأحيان ضعفاً يندر بأخطر العواقب؛ إذ بدا الطالب يسرف في الاعتزاز بشخصيته، وقد يعلو صوته على أستاذه أو يخشى في تعبيره معه، أو أن يضع ساقاً على ساق في وجهه أو يصرِّح أمامه في جرأة بما لا يليق التصريح به، ومن الطلاب من يتجرأ فيعصي أمر أستاذه.
فأين هذا مما قاله الشاعر شوقي في فضل المعلم:
كاد المعلّم أن يكون رسولا
قم للمعلِّم وفِّـه التبجيلا
يبني وينشئ أنفساً وعقولاً
أرأيت أعظم أوأجلَّ من الذي
وفي تقدير المعلم:
علّمت بالقلم القرون الأولى
سبحانك اللهم خير معلّم
وهديته النور المبين سبيلا
أخرجت هذا العلم من ظلماته
وكما ورد في قوله تعالى جلت قدرته وفي فضل العلم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
وقوله عز وجل لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.
فالتعليم هو وظيفة الأنبياء السامية، والمعلّم هو وريثهم في هذه الرِّسالة. ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول "إنما بعثت معلماً".
حقّا,ً إنّ موضوع العلاقة بين الأستاذ وتلميذه في الوقت الحاضر هو من موضوعات الساعة التي يجب أن تأخذ طريقها إلى الاهتمام والعناية والرعاية والمعالجة السريعة, ولا شك أنّ هذا العلاج يشترك في تقديمه ولاة الأمور من المسؤولين والمربّين والآباء والمدرّسين والمثقفين من العلماء والأدباء، وكذلك نخبة من الطلاب, وحتى نستطيع أن نعود بهذه العلاقة الوثيقة والرابطة المتينة التي كانت تربط الأستاذ بتلاميذه إلى ما كانت عليه من قوة ومحبة ومودة وألفة، وكان لها الفضل الأكبر في تخريج جيل عربي إسلامي من أئمة الفكر والأدب والعلوم ومن كبار العلماء والفقهاء والمحدثين الذين وضعوا الأساس المتين لحضارتنا الإسلامية العربية المجيدة في عصورها الزاهرة.
أهداف التربية والتعليم عند المسلمين الأوائل:
اختلف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين في بيان الأهداف التي قصد إليها الإسلام من وراء حضِّه على العلم:
1- فمنهم من قال: إنّ أهدافه من وراء ذلك هي إحياء شعائر الإسلام والقيام بفروضه وعباداته, أي أنها أغراض دينية بحتة.
ويؤكدون على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ويقصد به التعليم الديني من قرآن وسنة وما إليها.
2- ومنهم من قال: إنّ أهداف الإسلام من التعليم هي أهداف دينية ودنيوية معا, بمعنى أنّ الدين الإسلامي لا يمنع أهله من الإفادة مما في الكون من توجيه العقل إلى اكتساب المال بالطرق المشروعة من تجارة وصناعة وزراعة وما إلى ذلك.
3- ومنهم من قال: إن وراء الهدفين الديني والدنيوي هدفاً ثالثاً هو العلم لذاته بما يدفع صاحبه إلى التعليم والبحث لا لشيء سوى البحث عن الحقيقة والتنقيب عن دفائن المعرفة.
وقد لخص بعض علماء التربية المسلمين هذه الأغراض في أربعة أهداف رئيسية وهي :
1. غرض ديني.
2. غرض اجتماعي.
3. غرض مادي (نفعي) لكسب العيش.
4. غرض عقلي وثقافي (العلم لذاته).
وكان الغرض الأخير هو هدف عشرات العلماء الذين بذلوا أعمارهم في سبيل العلم والبحث, ولم يقبلوا عليه أجراً ولا وظيفة، ولا أباحوا لأنفسهم أن يأخذوا درهما ولا ديناراً في سبيل نشر العلم والبحث والمعرفة, وهؤلاء كثيرون, وفي طليعتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن عمر وأبو حنيفة النعمان والإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين.
المواد الدراسية عند المسلمين
تبلورت الدروس والمعلومات في مواد دراسية اعتباراً من أيام المدرسة النظامية الإسلامية سواءً في الكتاتيب أو المدارس أو دور العلم أو دور الحكمة.
فقد بحث المسلمون فيها أبحاثاً مستفيضة, وقسّموا العلوم إلى درجات أو مواد أو مقررات دراسية بالمعنى المفهوم حالياً.
فقالوا: إنّ أول ما يجب على الطالب دراسته بعد القرآن الكريم وأصول العلوم الدينية ومبادئ العلوم العربية هو التفسير ثم علم الحديث ثم علم أصول الفقه ثم علم الفقه ثم علم الخلاف بين المذاهب الإسلامية.
وفي ترتيب مواد الدراسة قسَّموا العلوم أربعة أقسام:-
1- علوم مفروضة فرض عين: وهي علوم القرآن الكريم والضروري من علوم الدين أصولاً وفروعاً.
2- علوم مفروضة فرض كفاية: وهي العلوم الدينية كلها بأصولها وفروعها, فإن تعلّمها البعض ففي ذلك كفاية.
3- علوم مباحة: وهي العلوم المفيدة ولكن تعلّمها مفيد في الحياة العامة مثل التوقيع والتذهيب والخط بمختلف أشكاله الخ..
4- علوم محرَّمة: وهي العلوم الباطلة المضرة, مثل السحر والشعوذة والطلسمات.
كما قسَّم بعض العلماء، والمربّين العلوم قسمين فقط وهي:
1. العلوم الشرعية.
2. العلوم غير الشرعية.
فالشرعية: وهي ما ورد في القرآن الكريم والسنة وعن طريق الصحابة.
غير الشرعية: تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم, وإلى ما هو مباح وغير المباح. والمحمود هو ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب, وهذا ينقسم بدوره إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغني عنه كالطب مثلا إذ هو ضروري في بقاء الأبدان على الصحة, والحساب فهو ضروري في المعاملات والتركات والوصايا والمواريث وغيرها. وكذلك علوم الملاحة والحياكة والحجامة (الصيدلة) وغيرها من العلوم المفيدة في الحياة العلمية, أما المذموم فهو: علم السحر، وعلم الشعوذة والطلسمات.
وقسّم ابن خلدون العلوم إلى :
1- مجموعة المواد الإجبارية.
2- مجموعة المواد الاختيارية.
فالمجموعة الأولى : تشمل مباحث دراسة القرآن وتعليم القراءة والكتابة، وبعض أخبار السنة، ومعرفة أوليات الدين واللغة العربية والحساب وكذلك ترويض الجسم (التمرينات والألعاب الرياضية).
والمجموعة الثانية (الاختيارية) : وتقوم على التوسع في دراسة علوم القرآن والدين وبحوث اللغة العربية وآدابها، ودراسة الرياضيات والفلك وما إليه من العلوم العامة.
ولقد كانت هذه المناهج والبرامج متبعة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين, وفي عصر الأمويين والعباسيين الأوائل من بعدهم؛ لأنها كانت تلائم البيئة الاجتماعية التي يحياها العرب المسلمون بصورة عامة في تلك الأزمان. فلمّا تطورت الحياة في العصر العباسي الثاني, ومال الناس إلى التعمق في علوم الكلام والعقائد والمذهب والآداب من شعر ونثر وخط وتجويد ظلت هذه المواد في سمو وتطور طوال العصر العباسي إلى أن تدهورت الأمة الإسلامية, وضعف شأنها بعد سقوط بغداد سنة 656هـ؛ إذ انحطت البرامج الدراسية وتراجع الناس إلى برامج ساذجة لا تهتم بتنمية الجسم والعقل, ولا تعمل على إذكاء روح البحث, وإنما ترمي إلى حشو الأدمغة ببعض القشور ومباحث الجدل والتصوف، فهبط المستوى التعليمي بعد أن كان في الحقيقة السابقة يهدف إلى رفع مستوى الطالب الفكري والاجتماعي والعقلي والوجداني. لم تكن الدولة تشرف على المعلّمين وكتاتيبهم الذين يعملون بها في صدر الإسلام، وإنما كانت الرقابة متروكة لضمير المعلّم ووجدانه وخلقه وأصالته، فقد كان الناس في صدر الإسلام - ومنهم المعلمون- يخافون الله فيما يفعلون وفيما يقولون, وكان كثير من المعلمين والمربين يعلِّمون وهم لا يبغون من وراء ذلك إلاّ الاحتساب وطلب الثواب.
فلمّا تطورت الحياة في المجتمع الإسلامي, وتسرّب الفساد إلى كيان الدولة واختلط العرب بأجناس مختلفة من مختلف الشعوب والجنسيات صار الآباء وأولياء الأمور يهتمون بانتقاء أفاضل المعلمين لأولادهم كما ينتقون العارفين والمتفقهين في هذه المهنة، وكانوا يطلبون من معلم الكتَّاب شروطاً معينة بأن يكون ذا ثقافة عالية، وأن يكون عارفاً بسياسة تربية الأطفال ودارساً لنفسياتهم (أي ملماً بطرق التدريس وأصول التربية وعلم النفس) وأن يكون ديِّنا ورعاً متزوجا، ولا يجيزون للشبان المراهقين مزاولة هذه المهنة. من هنا نرى الأهمية الكبرى في اختيار وانتقاء المعلّمين الذين يقومون بأقدس رسالة وهي تربية وتنشئة وتعليم الشباب في مختلف أدوار حياتهم, وهي مهمة ليست باليسيرة, وليس من السهل أن يقوم بها كل من أوتي من العلم قسطاً من المعرفة دون أن تتوافر لديه المقومات الأساسية للمعلم الصالح والمربي الفاضل.
مناهج البحث عند المسلمين :
كان تصنيف مناهج البحث عند المسلمين ينقسم إلى أقسام ثلاثة :
1- منهج أهل الحديث: وهم الإمام مالك وأصحابه ممن قالوا بالأصول الأربعة ولكن اعتمادهم كان أساساً على القرآن والحديث والإجماع.
2- منهج أهل الرأي: وهم الإمام أبو حنيفة ممن قالوا بالأصول الأربعة, ولكن جلّ اعتمادهم على القرآن وعلى ما صح من الحديث، وعلى الإجماع والقياس.
3- منهج أهل الظاهر: وهم داود وأصحابه ممن قالوا بالأصول الثلاثة: القرآن والسنة والإجماع، ومنعوا العمل بالتأويل والرأي والقياس.
وقد غلبت بعض هذه المناهج الثلاثة على أقاليم دون غيرها، فمذهب أهل الحديث غلب على أهل مكة والمدينة ومصر ومسلمي أفريقية والأندلس.
ومذهب أهل الرأي غلب على أهل العراق والمشرق ولكنه لم يعمَّر طويلا.
والمذهب الثالث: غلب على بعض الأمصار في الدولة الإسلامية في المشرق والمغرب.
هذه نظرات سريعة عن التربية الإسلامية في معظم جوانبها, وهي جديرة بالدراسة والاهتمام من المؤولين على كافة المستويات, ويجدر بإدخال هذه المادة في برامج التعليم وخاصة بالكليات الجامعية حتى يتحقق لشبابنا العربي والإسلامي والعالمي ما نصبو إليه جميعا من غزة وتقدم وأصالة عربية وتربية إسلامية حقة. ولن يكتب لهذه البشرية في عالمنا المعاصر الخير والتوفيق ما لم تتأصل فيها المبادئ والقيم التي نادت بها الشريعة الإسلامية السمحة من قرآن وسنة وإلاّ فلا بد من عاصفة مدمِّرة تهلك الحرث والنسل والعياذ بالله.
وبالله التوفيق..
محمد الشربيني – خبير التعليم
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
خبير التعليم
أولا: الخصائص والشروط التي اشترطها المسلمون الأوائل في المعلمين والمربين:
1- أن يكون المعلّم أو المربي قوي اليقين بالله عز وجل وأن يقو بشعائر الدين وإظهار السنة وإخماد البدع وأن يتخلق بمحاسن الأخلاق.
2- أن يتشبه بأهل الفضل والدين من معلمي الصحابة والتابعين ومن أتي بعدهم من أكابر العلماء والفقهاء والسلف الصالح.
3- ألا ينصِّب نفسه للتعليم حتى يستكمل أهليته ويشهد له أفاضل الأساتذة بذلك.
4- أن يحب تلاميذه ويصونهم عن الأذى ما استطاع، وأن يغفر لهم خطاياهم ويعذرهم على هفواتهم.
5- أن يرحِّب بطلبته إذا حضروا إليه ويسأل عنهم إذا غابوا عنه، وأن يعودهم في منازلهم إذا كانوا مرضى.
6- أن يقول "لا أدري" إذا سئل عما لا يعرفه, وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصيته للمعلمين: "يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل: "الله أعلم" فإنّ من العلم أن تقول "الله أعلم".
7- أن يتفهّم مستوى طلابه ويخاطبهم على قدر فهمهم وإدراكهم، فيكتفي للحاذق بالإشارة، ويوضح لغيره بالعبارة، ويكرر الكلام لمن لا يعلم، وعليه أن يبدأ بتصوير المسألة أو موضوع الدرس، ثم يوجِّه الأمثلة، ويقتصر على ذلك من غير دليل ولا تعليل، فإن سهل على الطلبة الفهم فعليه أن يذكر التعليل والمأخذ ويبيِّن الدليل المعتمد.
8- ألا يعلِّم أحداً ما لا يحتمله ذهنه أو سنُّه، ولا يشير على أحد بقراءة كتاب يقصر عنه فهمه.
9- ألاّ يدرس وهو منزعج النفس، أو فيه ملل أو مرض أو جوع أو غضب فإن ذلك مضرٌّ بنفسه وبطلابه ضرراً بليغاً.
10- أن يكون يقظاً أثناء الدرس وأن يوقظ الغافل من طلابه، وأن ينصحهم بحسن الاستماع من حين لآخر، وأن يحثهم على نظافة الفصل ومكان إلقاء الدرس.
11- أن يجعل للطلاب أوقاتاً معينة يعرضون فيها عليه ما حفظوه من القرآن والعلوم الأخرى وليكن ذلك في نهاية كل أسبوع وذلك سنة المعلمين الأوائل منذ كانوا.
12- أن يستعلم عن أسماء طلبته وحاضري درسه وعن أنسابهم ومواطنهم وأحوالهم لما في ذلك من تقوية الصلات بينه وبينهم والتعرف عليهم بما يسهِّل له أمر تعليمهم بعد الوقوف على مشكلاتهم ومحاولة معالجتها.
13- يجب عليه أن يكون مَثَلاً أعلى لطلابه في هندامه ومظهره ونظافة جسمه وتقصير أظفاره واجتناب الروائح الكريهة والعادات الممقوتة.
14- أن يطرح على تلاميذه أسئلة كثيرة متنوعة يفهم منها مقدار ما استوعبوه من دروس وما فهموه من مقررات، فإن لم يجدهم قد استفادوا بالقدر المطلوب أعاد عليهم الكرّة، وإن وجدهم قد فهموا وحفظوا فعليه أن يثني على البارع منهم ويشجع المتوسط ويأخذ بيد الضعيف والمتخلف, وعليه أن يوصي كل واحد منهم بقراءة الكتب التي تلائم مستواه الفكري وعمره الزمني.
والحق إنّ المعلّمين في كل زمان هم الصفوة المختارة الذين نذروا نفوسهم لتعليم أبناء الأمة وأذابوا حياتهم لإضاءة الطريق أمام الشباب وأجيال المستقبل، قد حملوا أسمى رسالة وعليهم أن يؤدّوها في صدق وأمانة وإخلاص حتى ينالوا رضا الرحمن ويحوزوا القبول من الناس. ويكفيهم فخراً وشرفاً أنهم خلفاء سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه.
ثانيا : الآداب والفضائل التي يجب أن يتحلى بها طلاب العلم:
1- يجدر بطالب العلم أن يفهم أنه إنما يتعلم العلم لله ولدين الله وللخير والمحبة والسلام وليس لأي عرض زائل.
2- وعليه أن يحافظ على شعائر دينه الحنيف ومكارم الأخلاق وإظهار السنن وأن يخشى الله في كل ما يقول وما يفعل وأن يطهِّر قلبه من الصفات الذميمة كالحسد والرّياء والغش والكذب وما إلى ذلك منم فاسد الأخلاق.
3- يجدر بطالب العلم أن يجدَّ في الدراسة منذ بداية العام وأن ينشط في الحفظ والعمل وألا يتأخر عن مواعيد دروسه.
4- يجب عليه أن لا يسأل أستاذه أسئلة تعنُّت وتعجيز، وأن يهذِّب أسئلته ويعرضها بشكل مقبول وبأسلوب مهذَّب.
5- أن لا يعاشر غير إخوان المجدين، ويبتعد عن أصحاب الأخلاق الفاسدة ورفاق السوء، فإن الطبع سرَّاق.
6- أن لا ينتقل من بحث قديم إلى بحث جديد إلاّ إذا بعد إتقان البحث القديم، إلاّ إذا كان ذا مواهب كبيرة، وبعد استئذان أستاذه ومشورته بذلك.
7- وعليه أن ينظر لأستاذه ومربيه نظرة إجلال واحترام وتقدير وأن يبجِّل أستاذه في حضوره وغيبته، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه ولا يناديه من بعيد، بل عليه أن يخاطبه بصفة الجمع ويذكره في غيبته بقوله: قال أستاذنا أو شيخنا كذا وكذا..
8- أن يسبق أستاذه في الحضور إلى مكان الدرس أو الحلقة أو الندوة وأن يجلس في حضرته بأدب، ويتعاهد تغطية قدميه وإرخاء ثيابه ولا يستند في حضرته إلى (جدار) أو مخدة (وسادة) ولا يدبر إليه ظهره وغير ذلك مما هو متعارف عليه في آداب الجلوس.
9- أن يلقى بسمعه إلى الشيخ بحث لا يضطره إلى إعادة الكلام ولا يتمخط ولا يتمطى ولا يتثاءب ولا يتجشَّأ ولا يضحك إلا بقدر وعند المناسبة.
10- أن يقلِّل النوم وينظم مواعيده حتى لا يلحقه الضرر من كثرة النوم في بدنه وذهنه بحيث لا يزيد نومه في اليوم والليلة على ثماني الساعات.
11- وعليه أن يعمل دائما على ما ينشِّط ذهنه بالترويح عن النفس وذلك بالسير في الخلوات والمنتزهات وممارسة الرياضة. وأن لا يأكل ما يفسد عليه ذوقه وفهمه أو يضر بصحته أو ينسيه بعض ما درس وكان المسلمون الأوائل يوصون الطالب بتناول بعض الأطعمة وشرب بعض الشراب الذي يعتقدون أنه يقوي الذهن والذاكرة مثل: أكل الزبيب بكثرة، وشرب الجلاب والعسل واستعمال السِّواك.
هذه هي بعض التعاليم الإسلامية الأصيلة التي وردت على لسان العلماء والمربين المسلمين الأوائل لأبنائهم من طلاب العلم في كل زمان ومكان, لتصلح من شأنهم وترفع من قدرهم وتسمو بمستواهم العقلي والخلقي والبدني والاجتماعي, وهي مشاعل تنير لهم طريق الهداية في حياتهم الدراسية، حتى إذا ما خرجوا إلى ميدان الحياة العامة كانوا رجالا عاملين مؤمنين مشبَّعين بروح التربية الإسلامية السمحة التي تعصمهم من الزلل وتهديهم صراطاً مستقيما في حياتهم الدنيوية والأخروية.
النظام التأديبي لطلاب المدرسة الإسلامية:
اهتم المربُّون المسلمون الأوائل بأمر عقوبة الطفل وتأديبه بغية تعليمه وتهذيبه وتقويم سلوكه, وقد اختلفت آراؤهم في الوسيلة التي يعاقب بها الطالب:
1- رأى بعضهم أنه لا بد من العقوبة، على أن لا تتعدى حدود الإنذار، فالتوبيخ، فالتشهير أمام زملائه، فالضرب الخفيف.
2- وقال آخرون بإباحة الضرب والعقوبة الجسدية الشديدة إذا ما تجاوز الطفل حدود المعقول والمقبول ولم ينفع فيه الإنذار والتوبيخ والتشهير والزجر والضرب الخفيف.
3- وقال الأكثرون من المربين أن العقوبة تنقسم قسمين: روحية وبدنية, ويجب أن يسبق ذلك النصائح والتوجيهات والإرشادات، فإن لم تجد نفعا فإنه يبدأ بالعقوبة الروحية وهي العبوس في وجه الطالب المعاقب، فاللوم، فالإهانة على انفراد فالتوبيخ أمام الرفقاء. فإن لم تأت العقوبة الروحية بنتيجة ما لجأ إلى العقوبة الجسدية من الوخز والضرب وليتجنب المربي أن يضرب رأس الفتى أو وجهه.
وهم يستدلون على جواز استخدام العقوبة البدنية بالحديث النبوي الشريف القائل: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر".
ويقول المربي العربي القابسي فيما كتبه عن سياسة المعلمين: "إنه يبيح للمعلّم أن يؤدب أطفاله إذا لم يفد معهم اللطف والإيناس، ويبيح له ذلك على أن يتجاوز ثلاث ضربات إلا إذا كان الطفل سيّئ الخلق قد ناهز الاحتلام فلا بأس من ضربه عشر ضربات وألا يزيد عن ذلك لأن أبناء الناس وديعة في يده. وكما يعاقب المعلّم تلميذه على إهماله دروسه يعاقبه أيضا على الإسراف في لعبه ولهوه وعلى الهرب من الدرس وعلى إيذاء إخوانه".
ويقول في ذلك أيضا المربي القابسي: "إذا أفرط الطالب فتثاقل على الإقبال على العلم، وتباطأ في حفظه أو أكثر الخطأ فيما حفظ أو في كتابة لوحه من نقص حروفه وسوء تهجيته وقبح كتابته وغلطه في نقطه، فنبَّهه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يُغن فيه التقريع بالكلام فله أن يعاقبه بالعقوبة البدنية المناسبة وهي الضرب بعصا (ضرباً لا يسبب للطالب عاهة مستديمة أو أذى شديداً وإنما يكفي شعوره بالألم عند توقيع العقوبة عليه)".
على أنّ كثيراً من المؤدبين والمربّين كانوا يلّحون إلحاحا شديداً بوجوب عدم الضرب والشتم والسب لما فيها من الفساد. فقال أحدهم: "لا تؤدبه إلاّ بالمدح ولطف الكلام وليس هو ممن يؤدب بالضرب أو التعنيف".
فهذا يدلنا على أن نفراً من المربّين المسلمين كرهوا الضرب أصلاً, وأوجبوا عدم العنف لما في ذلك من الضرر على المتعلم.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الرفق في الأمر كله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
العلاقة بين الأستاذ والتلميذ في صدر الإسلام وفي عالمنا المعاصر:
كانت العلاقة بين المعلم والمتعلم في صدر الإسلام قائمة على الحب والوفاء والتكريم والتوقير، فالمعلم والد يؤدب بالحسنى، ويهذِّب بالحكمة، ويقسو حينما تجب القسوة، ولكنها قسوة من يريد الخير لابنه وتلميذه.
وكان المتعلّم ابناً مطيعا بارّاً، يرى في إجلاله لأستاذه مظهراً من مظاهر الأدب وحسن الخلق، وكان التلميذ يعتبر نفسه عجينة في يد أستاذه المحب له الحريص عليه، فهو يشكِلُّها ويصوغها على حسب ما يرى, ويعتقد فيه الصلاح والنجاح. وعلى التلميذ أن يسمع ويستجيب.
وكان الطالب يحافظ على وفائه لأستاذه حتى بعد تخرّجه أو انقطاعه عن حلقة الدرس، أو بلوغه مرتبة ملحوظة في الحياة, فهو يظلّ يذكر مدرسه بالخير، وهو يحتفل لقدومه ولقائه, ويتأدب أمامه ويستحي منه ويزوره ويتودد إليه.
وكان المدرِّسُ من جهته يظلّ على صلة بتلميذه ولو نزل معترك الحياة, وهو يواصل توجيهه وإرشاده بحسب طاقته وإمكاناته وقدراته، وهو يتبع خطواته في المجتمع، ويفرح لتوفيقه ونجاحه في مجال عمله.
هذه العلاقة بين الأستاذ وتلميذه ظلّت قوية ومتينة إلى عهد قريب. ولو رجعنا إلى عهد أبعد، وذهبنا نسترجع تاريخنا الإسلامي لوجدناه عاطراً بقصص الحب والوفاء المتبادل بين المعلّمين والمتعلّمين مليئاً بمواقف التمجيد من جانب التلاميذ للأساتذة والمربّين والأوائل.
ومن أبلغ ما ورد في مجال تكرم الطلاب لأستاذهم هذه القصة:
كان المعلّم النحوي الشيخ "الفراء" يقوم بتعليم ولدَيْ الخليفة العباسي المأمون علوم العربية، وذات يوم أراد "الفراء" أن يقوم من درسه، فتسابق الأميران إلى حذائه ليقدِّماه إليه وتنازعا على ذلك لحظة، ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما من الحذاء واحدة, ولما علم الخليفة الوالد "المأمون" بالقصة تأثر منها وأعجب بها.
أما اليوم: فإنّ من الطلاب من ينسى حق أستاذه وهو بين يديه يغترف من علمه وفضله، فكيف به إذا بعد عنه وتخرَّج وعمل في ميدان تخصصه, كما أنّ بعض المدرّسين وهم قلة لا يؤدون حق تلاميذهم عليهم, ولا يبذلون الجهد المطلوب في سبيل تعليمهم وتربيتهم ومعالجة مشكلاتهم.
حقاً لقد ضعفت الرابطة بين التلميذ وأستاذه في عالمنا المعاصر، وضعفت العلاقة بينهما في بعض الأحيان ضعفاً يندر بأخطر العواقب؛ إذ بدا الطالب يسرف في الاعتزاز بشخصيته، وقد يعلو صوته على أستاذه أو يخشى في تعبيره معه، أو أن يضع ساقاً على ساق في وجهه أو يصرِّح أمامه في جرأة بما لا يليق التصريح به، ومن الطلاب من يتجرأ فيعصي أمر أستاذه.
فأين هذا مما قاله الشاعر شوقي في فضل المعلم:
كاد المعلّم أن يكون رسولا
قم للمعلِّم وفِّـه التبجيلا
يبني وينشئ أنفساً وعقولاً
أرأيت أعظم أوأجلَّ من الذي
وفي تقدير المعلم:
علّمت بالقلم القرون الأولى
سبحانك اللهم خير معلّم
وهديته النور المبين سبيلا
أخرجت هذا العلم من ظلماته
وكما ورد في قوله تعالى جلت قدرته وفي فضل العلم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
وقوله عز وجل لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}.
فالتعليم هو وظيفة الأنبياء السامية، والمعلّم هو وريثهم في هذه الرِّسالة. ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول "إنما بعثت معلماً".
حقّا,ً إنّ موضوع العلاقة بين الأستاذ وتلميذه في الوقت الحاضر هو من موضوعات الساعة التي يجب أن تأخذ طريقها إلى الاهتمام والعناية والرعاية والمعالجة السريعة, ولا شك أنّ هذا العلاج يشترك في تقديمه ولاة الأمور من المسؤولين والمربّين والآباء والمدرّسين والمثقفين من العلماء والأدباء، وكذلك نخبة من الطلاب, وحتى نستطيع أن نعود بهذه العلاقة الوثيقة والرابطة المتينة التي كانت تربط الأستاذ بتلاميذه إلى ما كانت عليه من قوة ومحبة ومودة وألفة، وكان لها الفضل الأكبر في تخريج جيل عربي إسلامي من أئمة الفكر والأدب والعلوم ومن كبار العلماء والفقهاء والمحدثين الذين وضعوا الأساس المتين لحضارتنا الإسلامية العربية المجيدة في عصورها الزاهرة.
أهداف التربية والتعليم عند المسلمين الأوائل:
اختلف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين في بيان الأهداف التي قصد إليها الإسلام من وراء حضِّه على العلم:
1- فمنهم من قال: إنّ أهدافه من وراء ذلك هي إحياء شعائر الإسلام والقيام بفروضه وعباداته, أي أنها أغراض دينية بحتة.
ويؤكدون على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ويقصد به التعليم الديني من قرآن وسنة وما إليها.
2- ومنهم من قال: إنّ أهداف الإسلام من التعليم هي أهداف دينية ودنيوية معا, بمعنى أنّ الدين الإسلامي لا يمنع أهله من الإفادة مما في الكون من توجيه العقل إلى اكتساب المال بالطرق المشروعة من تجارة وصناعة وزراعة وما إلى ذلك.
3- ومنهم من قال: إن وراء الهدفين الديني والدنيوي هدفاً ثالثاً هو العلم لذاته بما يدفع صاحبه إلى التعليم والبحث لا لشيء سوى البحث عن الحقيقة والتنقيب عن دفائن المعرفة.
وقد لخص بعض علماء التربية المسلمين هذه الأغراض في أربعة أهداف رئيسية وهي :
1. غرض ديني.
2. غرض اجتماعي.
3. غرض مادي (نفعي) لكسب العيش.
4. غرض عقلي وثقافي (العلم لذاته).
وكان الغرض الأخير هو هدف عشرات العلماء الذين بذلوا أعمارهم في سبيل العلم والبحث, ولم يقبلوا عليه أجراً ولا وظيفة، ولا أباحوا لأنفسهم أن يأخذوا درهما ولا ديناراً في سبيل نشر العلم والبحث والمعرفة, وهؤلاء كثيرون, وفي طليعتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن عمر وأبو حنيفة النعمان والإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين.
المواد الدراسية عند المسلمين
تبلورت الدروس والمعلومات في مواد دراسية اعتباراً من أيام المدرسة النظامية الإسلامية سواءً في الكتاتيب أو المدارس أو دور العلم أو دور الحكمة.
فقد بحث المسلمون فيها أبحاثاً مستفيضة, وقسّموا العلوم إلى درجات أو مواد أو مقررات دراسية بالمعنى المفهوم حالياً.
فقالوا: إنّ أول ما يجب على الطالب دراسته بعد القرآن الكريم وأصول العلوم الدينية ومبادئ العلوم العربية هو التفسير ثم علم الحديث ثم علم أصول الفقه ثم علم الفقه ثم علم الخلاف بين المذاهب الإسلامية.
وفي ترتيب مواد الدراسة قسَّموا العلوم أربعة أقسام:-
1- علوم مفروضة فرض عين: وهي علوم القرآن الكريم والضروري من علوم الدين أصولاً وفروعاً.
2- علوم مفروضة فرض كفاية: وهي العلوم الدينية كلها بأصولها وفروعها, فإن تعلّمها البعض ففي ذلك كفاية.
3- علوم مباحة: وهي العلوم المفيدة ولكن تعلّمها مفيد في الحياة العامة مثل التوقيع والتذهيب والخط بمختلف أشكاله الخ..
4- علوم محرَّمة: وهي العلوم الباطلة المضرة, مثل السحر والشعوذة والطلسمات.
كما قسَّم بعض العلماء، والمربّين العلوم قسمين فقط وهي:
1. العلوم الشرعية.
2. العلوم غير الشرعية.
فالشرعية: وهي ما ورد في القرآن الكريم والسنة وعن طريق الصحابة.
غير الشرعية: تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم, وإلى ما هو مباح وغير المباح. والمحمود هو ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب, وهذا ينقسم بدوره إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغني عنه كالطب مثلا إذ هو ضروري في بقاء الأبدان على الصحة, والحساب فهو ضروري في المعاملات والتركات والوصايا والمواريث وغيرها. وكذلك علوم الملاحة والحياكة والحجامة (الصيدلة) وغيرها من العلوم المفيدة في الحياة العلمية, أما المذموم فهو: علم السحر، وعلم الشعوذة والطلسمات.
وقسّم ابن خلدون العلوم إلى :
1- مجموعة المواد الإجبارية.
2- مجموعة المواد الاختيارية.
فالمجموعة الأولى : تشمل مباحث دراسة القرآن وتعليم القراءة والكتابة، وبعض أخبار السنة، ومعرفة أوليات الدين واللغة العربية والحساب وكذلك ترويض الجسم (التمرينات والألعاب الرياضية).
والمجموعة الثانية (الاختيارية) : وتقوم على التوسع في دراسة علوم القرآن والدين وبحوث اللغة العربية وآدابها، ودراسة الرياضيات والفلك وما إليه من العلوم العامة.
ولقد كانت هذه المناهج والبرامج متبعة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين, وفي عصر الأمويين والعباسيين الأوائل من بعدهم؛ لأنها كانت تلائم البيئة الاجتماعية التي يحياها العرب المسلمون بصورة عامة في تلك الأزمان. فلمّا تطورت الحياة في العصر العباسي الثاني, ومال الناس إلى التعمق في علوم الكلام والعقائد والمذهب والآداب من شعر ونثر وخط وتجويد ظلت هذه المواد في سمو وتطور طوال العصر العباسي إلى أن تدهورت الأمة الإسلامية, وضعف شأنها بعد سقوط بغداد سنة 656هـ؛ إذ انحطت البرامج الدراسية وتراجع الناس إلى برامج ساذجة لا تهتم بتنمية الجسم والعقل, ولا تعمل على إذكاء روح البحث, وإنما ترمي إلى حشو الأدمغة ببعض القشور ومباحث الجدل والتصوف، فهبط المستوى التعليمي بعد أن كان في الحقيقة السابقة يهدف إلى رفع مستوى الطالب الفكري والاجتماعي والعقلي والوجداني. لم تكن الدولة تشرف على المعلّمين وكتاتيبهم الذين يعملون بها في صدر الإسلام، وإنما كانت الرقابة متروكة لضمير المعلّم ووجدانه وخلقه وأصالته، فقد كان الناس في صدر الإسلام - ومنهم المعلمون- يخافون الله فيما يفعلون وفيما يقولون, وكان كثير من المعلمين والمربين يعلِّمون وهم لا يبغون من وراء ذلك إلاّ الاحتساب وطلب الثواب.
فلمّا تطورت الحياة في المجتمع الإسلامي, وتسرّب الفساد إلى كيان الدولة واختلط العرب بأجناس مختلفة من مختلف الشعوب والجنسيات صار الآباء وأولياء الأمور يهتمون بانتقاء أفاضل المعلمين لأولادهم كما ينتقون العارفين والمتفقهين في هذه المهنة، وكانوا يطلبون من معلم الكتَّاب شروطاً معينة بأن يكون ذا ثقافة عالية، وأن يكون عارفاً بسياسة تربية الأطفال ودارساً لنفسياتهم (أي ملماً بطرق التدريس وأصول التربية وعلم النفس) وأن يكون ديِّنا ورعاً متزوجا، ولا يجيزون للشبان المراهقين مزاولة هذه المهنة. من هنا نرى الأهمية الكبرى في اختيار وانتقاء المعلّمين الذين يقومون بأقدس رسالة وهي تربية وتنشئة وتعليم الشباب في مختلف أدوار حياتهم, وهي مهمة ليست باليسيرة, وليس من السهل أن يقوم بها كل من أوتي من العلم قسطاً من المعرفة دون أن تتوافر لديه المقومات الأساسية للمعلم الصالح والمربي الفاضل.
مناهج البحث عند المسلمين :
كان تصنيف مناهج البحث عند المسلمين ينقسم إلى أقسام ثلاثة :
1- منهج أهل الحديث: وهم الإمام مالك وأصحابه ممن قالوا بالأصول الأربعة ولكن اعتمادهم كان أساساً على القرآن والحديث والإجماع.
2- منهج أهل الرأي: وهم الإمام أبو حنيفة ممن قالوا بالأصول الأربعة, ولكن جلّ اعتمادهم على القرآن وعلى ما صح من الحديث، وعلى الإجماع والقياس.
3- منهج أهل الظاهر: وهم داود وأصحابه ممن قالوا بالأصول الثلاثة: القرآن والسنة والإجماع، ومنعوا العمل بالتأويل والرأي والقياس.
وقد غلبت بعض هذه المناهج الثلاثة على أقاليم دون غيرها، فمذهب أهل الحديث غلب على أهل مكة والمدينة ومصر ومسلمي أفريقية والأندلس.
ومذهب أهل الرأي غلب على أهل العراق والمشرق ولكنه لم يعمَّر طويلا.
والمذهب الثالث: غلب على بعض الأمصار في الدولة الإسلامية في المشرق والمغرب.
هذه نظرات سريعة عن التربية الإسلامية في معظم جوانبها, وهي جديرة بالدراسة والاهتمام من المؤولين على كافة المستويات, ويجدر بإدخال هذه المادة في برامج التعليم وخاصة بالكليات الجامعية حتى يتحقق لشبابنا العربي والإسلامي والعالمي ما نصبو إليه جميعا من غزة وتقدم وأصالة عربية وتربية إسلامية حقة. ولن يكتب لهذه البشرية في عالمنا المعاصر الخير والتوفيق ما لم تتأصل فيها المبادئ والقيم التي نادت بها الشريعة الإسلامية السمحة من قرآن وسنة وإلاّ فلا بد من عاصفة مدمِّرة تهلك الحرث والنسل والعياذ بالله.
وبالله التوفيق..
محمد الشربيني – خبير التعليم
Tidak ada komentar:
Posting Komentar